التنظيم الاجتماعي:
التركيبة الاجتماعية في محافظة رفح، أو البناء الاجتماعي Structuation,Social””، تشكل تبعًا لمتغيرات ديموغرافية مفاجئة، كنتيجة تلقائية لأحداث النكبة والمذابح في المدن والقرى في فلسطين المحتلة، والحروب المتكررة التي تلاحقهم إلى الآن وفي مخيمات اللجوء؛ فقد تغير مكان السكن، وانفك بذلك عِقد القرابة والجيرة والصداقة وما إلى ذلك باتجاه ثقافات جماعية وفردية جديدة، ليهبط الأفراد في بيئات جديدة مختلفة عليهم، ووجدوا أنفسهم أمام منظومة الضبط الاجتماعي Social Control””: بشقيه الجبري القانوني
أولاً: وهي منظومة القوانين للحكم العسكري للمحتل و عنصريته .
والثاني: منظومة الضبط العُرفي الذى يستند إلى العادات والتقاليد والأعراف المتوارثة، وهي نافذة بيد مشيخة القبيلة والمخاتير للعائلات والوجهاء والشخصيات الوازنة في المجتمع. والمختار في العائلة كان يعدّ الأكثر حكمة، حيث يناط به حل المشكلات والنزاعات بين الأُسر والعائلات في المخيم. وقُدِّر أن تجري السياسة في عروق المجتمع مجرى الدم؛ فسكان المخيم الذين سكنوا المناطق الحضرية في الغالب، انتفضوا إلى شوارع المدينة فترة الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) ليخرجوا عن دائرة الصمت بثورة شعبية، وانطلقت الحركات الشعبية من المخيمات، يتقدمها قيادات تمثل تنظيمات منظمة التحرير الفلسطينية، شكلوا جماعات وسرعان ما تحولت إلى عسكرية مقاومة للمحتل.
اتساقًا مع ما سبق يؤكد الكاتب أنه: “من الطبيعي نشأت الحركات الاجتماعية من خلال مقدمات ضرورية تمهد لها وتهيئ لظهورها، والمدينة كانت ولا تزال التربة الخصبة لنمو بذور التغيير بكافة أشكاله العنيفة والهادئة، كما تلعب التفاوتات الطبقية الشائعة دورًا لا يمكن نكرانه في إذكاء الحركات وتنشيطها” (مرجع سابق، الكردي، 1983: 239).
كان قادة التنظيمات والحركات الإجتماعية “Social Movement” الفلسطينية في المحافظة هم من أبناء المخيمات، ولا ننكر انخراط الكثيرين من السكان غير اللاجئين في الصفوف لرفع الظلم عن المجتمع ككل ومقاومة الاحتلال، ونظرًا لموقع المخيمات برفح في قلب المدينة، ولتردى الظروف المعيشية والحريات والملاحقة الدائمة للاجئين، مع تمييزهم عن غيرهم من السكان. تشكلت الطبقات والفئات الاجتماعية Social Categories ” ” بشرائح مميزة، مثل (شريحة العاملين لتسيير الحياة الإدارية في ظل الحكم العسكري للمحتل، شريحة المدرسين وأساتذة الجامعات والمعاهد، شريحة موظفين وكالة الغوث الدولية، شريحة مشايخ القبائل والمخاتير والتجار، شريحة القيادات الشعبية التي يمثلها قادة التنظيمات العاملة على الساحة، وفى الغالب هم من اللاجئين وأبرزهم من كانوا مطلوبين لقوات الاحتلال آنذاك)؛ وكان يطلق على المطلوبين للاحتلال اسم “المطاردين”، وقد كان لهم القيمة الرمزية الاجتماعية العالية بين الناس.
توقفت الانتفاضة الأولى بدخول السلطة الوطنية الفلسطينية، وبدأ المجتمع بتشكيل كيان اجتماعي اقتصادي خدماتي مؤسسي وطني جديد، مجتمع مؤسسات “Carporation Socity”، فظهرت طبقات وشرائح لصفوات اجتماعية جديدة “Class”، مثل: (قيادات السلطة ومنظمة التحرير الذين عادوا إلى أرض الوطن، قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، الوزراء وأعضاء المجلس التشريعي، قيادات التنظيمات الفلسطينية داخل المنظمة، أو خارجها بشكل علني). وشكل هذا التغير الاجتماعي مجتمعًا مدنيًّا جديدًا وتغيرت هيكلياته الإدارية الرسمية، وأضيف الكثير من أدوات الحداثة والتطوير، حيث انتعش الوضع الاقتصادي والتعليمي والصحي والخدماتي المؤسسي في اتجاهات عدة، تبعًا لزيادة أعداد العائدين من الخارج.
بدأت الانتفاضة الثانية عام 2000 (انتفاضة الأقصى) جراء انغلاق الأفق السياسي، فحدثت انتكاسة قوية في كافة مناحي الحياة بمناطق السلطة، وباستشهاد الأب والقائد الرمز: ياسر عرفات أبو عمار، وخروج المستوطنين اليهود من مغتصبات القطاع. ودخول مرحلة انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، أفرزت حكومة مشكلة من حركة حماس، دفعت إلى حصار مُدقع، وبات المجتمع يعيش في سجن كبير، ويعاني من أزمة هوية Identity Crisis””،
من ثم ظهرت حركات جديدة تضيف إلى سابقاتها في المقاومة تشكيلات جديدة، وبعضها قد خرج من رحم تنظيمات قديمة على الساحة الفلسطينية، والكل يحاول الحفاظ على كينونته ومصادر تمويله وزيادة شعبيته، وبات المجتمع في حالة استقطاب “Polarization” شديدة جدًّا لم تمر في تاريخه، قسمت المقسم منذ عام 2006، وأصبح المجتمع يعيش إلى الآن أزمة الشرعية Legitimation Crisis” ” ما بين غزة ورام الله، وتنشط حركات المقاومة والفصائل في المحافظة وتقدم خدمات إنسانية واجتماعية، وإن كانت هذه الخدمات مركزة على عناصرها في المقام الأول!، والكل يكافح من أجل تطوير نمط المعيشة والحياة كباقي مجتمعات العالم.
حقيقةً يعدّ مجتمعنا المعاصر(مجتمع التنظيم المعقد)، نظرًا لما تقوم به التنظيمات في تشكيل أساليب الحياة وأنشطتها، وباتت هذه التنظيمات العامل المؤثر في تكوين وتشكيل النشاطات، وفي سلوك الأفراد، ليس فقط داخل البناءات التنظيمية بل أيضًا في جميع سلوكهم وأسلوبهم في الحياة ككل، وبدون شك أن مجتمعنا مجتمع تنظيمي (عبد الرحمن، 1987: المقدمة). وعلى حد تعبير(برثيوس): “فنحن نولد فى تنظيمات، ونتعلم في تنظيمات، ونقضي معظم حياتنا نعمل فى تنظيمات، … بل عندما يحين الرحيل للقبر تكون الدولة هي أعظم تنظيم ككل يمنح التصريح الرسمي”.(عبد الرحمن، 1988: 293).
تُعرف الطبقة بالجماعة الفاعلة اجتماعيًّا من خلال الموقف الإقتصادي مع أهمية العامل السياسي والإيديولوجي كبناء فوقي، وتحتل كل جماعة مكانًا محددًا في تقسيم العمل الاجتماعي، وتتسم هذه الأماكن بالموضوعية (N.Poulantzas, 1975 : 14). وبناءً عليه يمكن الحديث عن طبقات اجتماعية وعن أجنحة أو شرائح داخل الطبقة، وعن فئات اجتماعية، ويمكن الحديث أيضًا عن علاقات تربط بين هذه الطبقات كعلاقات اقتصادية (إنتاج وإستغلال)، وعلاقات سياسية (السيطرة والخضوع السياسي)، وعلاقات أيديولوجية (سيطرة وخضوع إيديولوجي)، وبذلك تُتَّخَذ المواقع الطبقية وليس الأوضاع الطبقية (المرجع نفسه، 15).
فيما يتعلق بتشكيل الطبقات وُجد تأكيدٌ على وجود سمات بين دول العالم الثالث، ذلك في ضوء علاقات التبعية بالمركز الرأسمالي العالمي، وكذلك ارتباطًا بالبرجوازية العالمية، والتأكيد على تنوع أجنحة البرجوازية الداخلية وتشوه تركيبها والأطر الموجهة لها، وعلى عدم تجانس البنية في مجتمعات العالم الثالث (زايد، 2008: 104).
وإرتباطًا بالأفكار السابقة نؤكد: ظهور طبقات أو أجنحة اقتصادية جديدة داخل المجتمع الفلسطيني، مرتبطة بشكل وثيق بالطبقات العليا الحاكمة للوضع العام في القطاع بحكم الأمر الواقع الجديد، وبرزت المكانة الاجتماعية الاقتصادية ” Secio Economic Status ” وتحديدًا في المحافظة وأبرزها: (شريحة تجار الأنفاق كمشاريع مقاومة ضد الحصار، ما أنتج غناء فاحشًا لدى الكثيرين، وشريحة “مهرة الآيبيهات” ما أفرز طبقة افتراضية من الأغنياء الجدد، وتجار السوق السوداء للبضائع والمواد الأساسية، وأصحاب العقارات ورؤوس الأموال الجدد)، ما شكَّل ملامح وتفاصيل اقتصاد أسود، فرضته ظروف وواقع الحصار والبطالة، كما يؤكد الكاتب: بكل موضوعية أن المجتمع أصبح به صفوات وطبقات وشرائح وأجنحة جديدة بحكم الأمر الواقع في قطاع غزة والمحافظة رفح، تُسرد من خلال التقسيمات التالية:
- طبقة حاكمة Ruling”” المسيطرة والمتنفذة، القيادات الساسة منهم والعسكر.
- طبقة عليا Upper”” الرأسماليون وتضم: (المُلاك، وأصحاب المهن والمشروعات الرئيسة، وأصحاب الأنفاق، ومهرة الآيبيهات ويعدّ آخر المذكورين “أغنياء جدد”).
- طبقة المستقلين التي انصهر بها شخصيات مثقفة ورجال أعمال ووجهاء ومخاتير عائلات، تبلورت بهدف الإصلاح المجتمعي وتفاديًا للقطبية السياسية.
- طبقة وسطى Middle”” عريضة وتشمل الموظفين: (من يتبعون أطياف التمثيل السياسي بين سلطة سابقة وأخرى سلطة أمر واقع، ويتبعون وكالة الغوث الدولية، ويتبعون المشروعات الخاصة).
وبكل وضوح: إننا أمام مشهد طبقي متجدد ومتداخل، يتلخص في طبقتين الأولى والثانية عالية، تعد برجوازية بمعنى الكلمة، وثالثة لديها الحظ الكافي من الرقي والاكتفاء، مقابل طبقة رابعة تُعَد وسطى، وتأتي الطبقة الدنيا “Under”، وهي طبقة العمال والبسطاء والفقراء، وهم مهمشون ويقبعون في خانة العوز باستمرار، ويدخلون في دائرة الصمت الدائم بتلقيهم المساعدات من هنا وهناك.
نُلاحظ: تغير وتبدل طبيعة العلاقات الأسرية بين بعض الأخوة والعلاقة الرحمية فيما بينهم، وانحدرت علاقات القرابة والجيرة والصداقة باتجاه الضعف، وأصبح ميزانها بالمجمل حزبي مقيت وكأنها وصمة Stigma””، وتبدو تفاصيل الحياة كالمجتمعات الانقسامية Segmentary Societes حتى وصلت إلى حد تحديد وتوجيه مبدأ المصاهرة والنسب فيما بين الأسر والعائلات، ولعل أن السبب المنطقي في هذا هو حفاظ كل طبقة أو حزب سياسي على الامتيازات والمقدرات الخاصة بهم وبمنتسبيهم وتعزيزها داخليًّا، وينسحب هذا المفاد على كافة الطبقات والشرائح بفروقات نسبية هنا وهناك، لقد أرخى الانقسام السياسي بظلالة فقسم المقسم إجتماعيًّا، والغالبية تناطح السحاب!! كلٌ حسب مصالحه الخاصة.
أشارت دراسة (حلس، 2006) إلى القيم السائدة فترة دراسته: “وعندما تضطرب القيم والمفاهيم لدى أي مجتمع من المجتمعات تبدو الفوضى والعبثية هي السائدة فيما يصبح الإنسان مهددًا في نفسه وعرضه وماله، ولأسباب عديدة في مقدمتها هيمنة الظلم وغياب العدل وتهميش العقل والمنطق، فضلاً عما يترتب على ذلك من فساد الخلق والضمير. وفي عصرنا اليوم نرى المجتمع الفلسطيني بظرف استثنائي، حيث تشهد القيم والمفاهيم اضطرابًا وإهتزازًا خطيرًا جراء انتشار الظلم والاضطهاد، حيث تعتمد كوسيلة لتصفية الحسابات الشخصية أو الحصول على المنافع والمكاسب الأنانية عن طريق التزلف لأصحاب السلطة والجاه، وهكذا نجد أن المخاطر المترتبة على انحسار القيم والمفاهيم الاجتماعية وتتحول إلى ممارسات تقليدية”.
خلاصة القول: إن التنظيم الاجتماعي أو البناء الاجتماعي كان في السابق مرتكزًا على مكانة شيوخ القبائل والعشائر ومخاتير العائلات والوجهاء والمثقفين، وعلى مبادئ المحبة والتسامح والتعاون، حيث كان التفكير جمعيًّا والثقافة جمعية تمامًا، وتحولت الآن الدَّفَة والكلمة الفصل بين أفراد المجتمع بيد طبقات الصفوات السياسية والاقتصادية المتعددة، ولربما يصلح تسميتها بازار الفصائل المفتوح، حيث تندرج ضمنها فئات أو أجنحة داخل كل طبقة، وتعدّ مزيجًا اجتماعيًّا اقتصاديًّا متنوعًا مغلفًا بألوان الطيف السياسي، وكل من هذه الطبقات تستخدم الطاقات والأدوات المتاحة للترقي والتمدن والتحديث لحياتها، وبات بعض أفراد المجتمع يطوفون حول شخوص يتمتعون بنفوذ حزبي معين يمثل نفوذًا اقتصاديًّا ومفتاحًّا لحل المشكلات الخاصة، وتغيرت قيمة الفرد اجتماعيًّا بناءً على مقومات القوة والسيطرة الجديدة، وتطور العيش بنمط ونوعية حياة راقية في كافة الاتجاهات بوتيرة متسارعة.
حيث تعدّ التغيرات السريعة هذه رديفًا ونتاجًا تراكميًّا للأحداث والمراحل التاريخية السريعة التي حدثت مع استمرار الاحتلال، وبرغم علو درجات القطبية المسيطرة على المشهد العام، التي يعيشها المجتمع في ظل تعدد الصفوات الحاكمة والقوى التي تسير بالفعل الاجتماعي، فإن الأفراد ككل يناضلون من أجل حياة أفضل بشتى الطرق، وبمعنى آخر لوحظ أن الثقافة الفردية والميل إلى الاستقلالية الحياتية هي المسيطرة على الأجيال الجديدة، وهم مكبّلون بواقع الظروف العامة بدين مطرقة وسنديان.